حكم زيارة القبور للنساء في المذاهب الأربعة
اتفق أهل العلم على أنّ المرأة التي تعلم من نفسها أنّها إذا زارت القبور صدر منها المنكرات من الأقوال والأفعال؛ كالصّياح، وشقّ الجيوب، واللطم، والاعتراض على قدر الله -تعالى-، أو الذهاب متزينة متبرجة تدعو إلى الفتنة، وإلى تضييع حقّ الله -تعالى-، وحقّ زوجها، أو نحو ذلك؛ لم تكن زيارتها جائزة -على الأحوال التي ذكرنا-.[١]
أمّا إذا خلت زيارة المرأة للقبور ممّا سبق؛ فقد تعدّدت الأقوال في حكمها، ونبيّنها على النحو الآتي:
عدم الجواز
ذهب بعض الحنفيّة، وبعض المالكيّة، والشافعيّة، والإمام أحمد في إحدى الرّوايات، وبعض أهل العلم كابن تيميّة، وابن القيّم، ومن وافقهم؛ إلى القول بعدم جواز زيارة النساء للقبور؛ لأنّ المرأة قليلة الصبر، كثيرة الجزع، وفي زيارتها للقبور تجديدٌ للحزن، ممّا يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وقد استدلوا بالأدلة الآتية:[٢]
- ما جاء في الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنّه قال: (إنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لعنَ زوَّاراتِ القبورِ).[٣]
- ما جاء في الحديث عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-، أنّ قال: (لعن رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- زائراتِ القبورِ، والمتَّخِذينَ عليها المساجدَ والسُرُجَ).[٤]
- ما صحّ عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنّه قال: (قبَرْنا مع رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يومًا فلمَّا فرَغْنا انصرَف رسولُ اللهِ، وانصرَفْنا معه فلمَّا حاذى بابَه وتوسَّط الطَّريقَ؛ إذا نحنُ بامرأةٍ مُقبلةٍ، فلمَّا دنَتْ إذا هي فاطمةُ، فقال لها رسولُ اللهِ: ما أخرَجك يا فاطمةُ مِن بيتِك؟ قالت: أتَيْتُ يا رسولَ اللهِ أهلَ هذا البيتِ، فعزَّيْنا ميِّتَهم؛ فقال لها رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: لعلَّكِ بلَغْتِ معهم الكُدَى -القبور-؟ قالت: معاذَ اللهِ وقد سمِعْتُك تذكُرُ فيها ما تذكُرُ، قال: لو بلَغْتِ معهم الكُدَى ما رأَيْتِ الجنَّةَ حتَّى يراها أبو أبيك).[٥][٦]
وفي الحديثين الأولين لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- زائرات القبور من النساء، وقرن فعلهنّ بالمتخذين على القبور المساجد والسُرُج، وفي الّلعن أكبر دليل على التحريم، وتشديد الحكم في النهي عن هذا الفعل، وقد ردّ القائلون بالجواز على أنّ هذا الحديث منسوخ.[٢]
وأجاب ابن تيميّة على اعتراضهم هذا؛ وقال إنّ النسخ كان في حقّ الرجال، بينما خصّ النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء في أحاديثه بقوله: "زوَّاراتِ القبورِ"، بينما جاء الحديث عن المتخذين على القبور المساجد والسُرُج بصيغة التذكير، فلو كان النسخ بحقهنّ لنصّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا، إنمّا قال: (نَهَيْتُكُمْ عن زِيارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوها).[٧][٢] أمّا الحديث الثالث؛ ففيه دلالة صريحة على عدم جواز زيارة القبور من قبل النساء.[٦]
الكراهة
ذهب الحنابلة في مذهبهم إلى كراهة زيارة القبور للنساء، ووافقهم على ذلك جمهور الشافعيّة، وأحد الأقوال عند الحنفيّة والمالكيّة، وذلك استدلالاً بما يأتي:[٨]
- ما صحّ عن أم عطية نسيبة بنت كعب -رضي الله عنها- أنّها قالت: (نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا)؛[٩] وهذا الحديث ينهى النساء عن اتباع الجنائز، والزيارة من جنس الاتباع؛ لذا فهي مكروهة غير محرمة، كما أن قول أم عطية -رضي الله عنها-: "ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا"؛ دلالة على عدم تأكيد النهي
- ما صحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (نَهَيْتُكُمْ عن زِيارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوها)؛[٧] إذ إنّ هذا الحديث ناسخٌ للقول بتحريم الزيارة للرجال، والأحاديث السابقة تنهى النساء؛ فلمّا دار الأمر بين التحريم والإباحة، كان الحكم -في أقل أحواله- هو الكراهة.
الجواز
ذهب الحنفيّة في الأصح عندهم، وبعض المالكيّة، وبعض الشافعيّة، والإمام أحمد في أحد الأقوال؛ إلى إباحة زيارة النساء للقبور إذا أمنت الفتنة، وذلك لما يأتي:[٨]
- ما صحّ عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنّها أقبلت ذات يوم من المقابر؛ فسألها أحد الصحابة: (يا أُمَّ المُؤمِنين، من أين أقبَلتِ؟ قالتْ: من قَبرِ أخي عَبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي بَكرٍ، فقُلتُ لها: أليس كان رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- نهى عنْ زِيارةِ القُبورِ؟ قالتْ: نَعَم، كان قد نَهى، ثمَّ أمَرَ بزِيارتِها)،[١٠] ففي هذا الحديث يظهر أنّ عائشة -رضي الله عنها- فهمت شمول النساء في عموم الإباحة، مما يدلّ على جواز زيارة القبور للمرأة.
- ما صحّ في الحديث عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنه-، أنّها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن دعاء المقابر؛ وذلك لمّا أمره الله -تعالى- أن يستغفر لأهل البقيع؛ فقالت: (كيفَ أَقُولُ لهمْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: قُولِي: السَّلَامُ علَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وإنَّا -إنْ شَاءَ اللَّهُ- بكُمْ لَلَاحِقُونَ).[١١]
- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ بامرأة تبكي عند القبر؛ فقال لها: (اتَّقِي اللَّهَ واصْبِرِي...)،[١٢] إذ لم يُنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- زيارتها للقبر، إنّما أنكر عليها الجزع والبكاء، وبذلك يكون الإقرار منه -صلى الله عليه وسلم- على جواز زيارة النساء للقبور.
ترجيح القول بالمسألة
رجّح بعض أهل العلم من المتأخرين القول بتحريم زيارة النساء للقبور؛ لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة المُعتبرة، ولأنّ الأقوال الأخرى يمكن الردّ والاعتراض عليها من عدة وجوه، بالإضافة إلى أنّ التحريم يتماشى مع قواعد الشريعة الإسلامية، ومراعاتها للمصالح العامة.[١٣]
كما أنّ الفتن والفساد المنتشر في هذا الزمان يستدعي القول بالتحريم، وإلا فإنّ الجواز قد يكون في حال أمنت الفتنة، والبدع، ونحوها من الأمور التي لا يرضى الله عنها.[١٣]
المراجع
- ↑ حسام الدين عفانة، فتاوى يسألونك، صفحة 166، جزء 3. بتصرّف.
- ^ أ ب ت حسام الدين عفانة، مسائل مهمات تتعلق بفقه الصوم والتراويح والقراءة على الأموات، صفحة 38. بتصرّف.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1056، حسن صحيح.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:320 ، حسن.
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم:3177 ، أخرجه في صحيحه.
- ^ أ ب ابن تيمية، مجموع الفتاوى، صفحة 361-362، جزء 24.
- ^ أ ب رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن بريدة بن الحصيب الأسلمي، الصفحة أو الرقم:1977، صحيح.
- ^ أ ب محمد حسن عبد الغفار، مخالفات تقع فيها بعض النساء، صفحة 4، جزء 4. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن نسيبة بنت كعب، الصفحة أو الرقم:1278، صحيح.
- ↑ رواه الحاكم، في المستدرك على الصحيحين، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:1410، سكت عنه وقال في المقدمة رواته ثقات احتج بمثله الشيخان أو أحدهما.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:974، صحيح.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:1283، صحيح.
- ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، مجلة البحوث الإسلامية، صفحة 262، جزء 85. بتصرّف.